البصر والبصيرة / للدكتورة غادة طنطاوي /

البصر والبصيرة
د. غادة ناجي طنطاوي. Ghada_tantawi@

في كتابه تعالى تمر علينا بعض الآيات دون أن نتفكر بما تعنيه. إستوقفتني الآية ٤٤ من سورة النور؛
"يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار".
كلمة الأبصار هنا لا تعني من يمتلك حاسة البصر، بل تحدثت عن البصيرة وهي شئ مختلف تمامًا عن البصر.
عندما نقول أن فلانًا مبصرًا، فنحن نقصد نعمة النظر و خواصها من تحديد حجم الأشياء وتمييزها عن غيرها من قربها، بعدها وألوانها، فالبصر هنا هو نور العين التي تبصر. أما البصيرة فهي جزء من نعمة الوعي، الإدراك، فصاحة البيان و قوة الحجة. أمورٌ ينعم الله بها على من يشاء من عباده ليلهمه طريق الصواب. و قد ذكرهم في كتابه الكريم قائلاً؛ "قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين".
الإنسان معجزة الخالق، لم يكتفي بأن وهبه حواسه الظاهرة كالسمع، البصر، الشم، التذوق واللمس، بل وهبه العقل، الوجدان والقلب. فقد خَصَّهُ الله تعالى بعمارة الأرض، العبادة، حمل الأمانة، وجعله في أحسن حال فقال عنه؛  (لَـقَدْ خـَلـقْـنَا الإنْسَـانَ فـي أحسن تقويم).  لأن أمور الحياة و حقائقها على أرض الواقع تحتاج إلى فكر، بصيرة، وعي و إدراك عوضًا عن حاسة البصر التي قد يتم خداعها أحيانًا. وقد ميز الله الإنسان عن الحيوان بنعمة الفكر بالاستبصار حيث يتدرج الطفل من التفكير بالمحاولة، الخطأ والتعلم بالشرطية، التقليد والمحاكاة إلى مرحلة الإستبصار. أي جمع حصيلة التجارب الفكرية القديمة ومزجها في خليطٍ جديد لمواجهة مشكلة مستجدة عليه في المستقبل.
عندما يدعو لك أحد قائلا : "الله ينور بصيرتك" هذا ليس معناه بالضرورة أنك محروم من نعمة البصر، ولكن إستعصت عليك بعض أمور الحياة ولو كان الأمر كذلك لما ذكر الله كلمة (ليعتبر) في الآية السابقة أعلاه. كثيرً ا من المآسي تكون نتيجة هذه الهوة العميقة بين البصر والبصيرة بين رؤية الشئ القدرة على إدراكه، والصبر في تحليله، ووسيلة التعبير عن هذا الشعور بالقول أو الفعل. و إني لأتعجب من أمةٍ ربها نور لقوله تعالى؛  "الله نورالسموات والأرض" و نبيها نور لقوله تعالى؛  "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين" و كتابها نور لقوله تعالى؛ "فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا". كيف إستعصى عليها فهم هذا الأمر ولازالت هذه الأمة تعيش في الظلام ؟؟!!
وكما اننا لا نستطيع أن نُبصر في الظُلمة حيث، تتشابه الأشياء، أو أنها تصبح أشباحًا لا يمكن تمييز بعضها عن بعض، فكذلك إذا فقدنا البصيرة فإننا نتورط في التشخيص الخاطئ للأشخاص وللأمور، وهذا هو الفرق بين إنسان صاحب وعي وبصيرة، وآخر عديم البصيرة. فالأول لايقع ضحية الخداع، التغرير والتزوير، والثاني عرضة لذلك كله، أما النموذج الآخر فهو الإنسان العاقل الذي يعي الواقع، يدركه ويعرف الناس من حوله، أي أن لديه القدرة على التمييز بين ماهو مستقيم وما هو منحرف، ماهو عدل وما هو ظلم، ماهو حق وما هو باطل، فالخير منه مأمول لأنه مستقيم في فكره وفي عمله. و العبرة لمن يعتبر ويفكر، وهي آلية خاصة بالعقل ولا تقتصر على المبصرين فقط. فكم من كفيفٍ مبصر القلب وكم من مبصرٍ قلبه مغيب عن الكثير..!!
لذلك وفي كثير من الأحيان يكون الشوف مش نظر.. الشوف وجهة نظر..  اللهم اهدنا لنورك وأضئ قلوبنا بنورك، واجعل لنا نورًا من نورك نمشي به في الدنيا والآخرة. وآخر دعوانا الحمدلله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة